إطلاق دعوى الإجماع

جاء عن الإمام أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه في معرض رده على بشر المريسي: “من ادعى الإجماع فقد كذب ومايدريه لعل الناس اختلفوا”.. وقيل إن قوله هذا جاء رداً على الأصم، وقيل ابن علية، وجميعهم من فقهاء المتكلمين. وبغض النظر عن هوية المردود عليه، إلا أن المقولة ثابتة وصحيحة عن الإمام أحمد.

وللإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه قول آخر بقليل من التفصيل:

“لم يدّعِ الإجماع، فيما سوى جمل الفرائض التي كُلِّفَتها العامة، أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا التابعين، ولا القرن الذين من بعدهم، ولا القرن الذين يلونهم، ولا عالم علمته على ظهر الأرض، ولا أحد نسبته العامة إلى علم إلا حينا من الزمان”.

مثل هذه النصوص من الائمة العدول تفتح المجال واسعاً للنظر، ناهيك عن استفزاز العقل البحثي للاطلاع والتوسع في فقه المذهب ثم في الفقه المقارن، والذي كان يُسمى عند المتقدمين بـ”فقه الخلاف”.. وتجعل المرء مستريحاً مطمئناً من اضطراب الأقوال وتباين الآراء بين هذا الفقيه وذاك، مع ضرورة التنبيه والتأكيد (ولا تأكيد للمؤكد) على أهمية ثني الركب والسماع من الأشياخ والتسلسل والتدرج العلمي..

أما الاجتهاد فلا يكون إلا بآلته وضوابطه ومن أهله.. فلا يُفتأت عليه ممن ليس من أهله، ولا يتجرأ عليه أحد بغير الآلة التي لا يستقيم الاجتهاد إلا بها، وهي معلومة عند أهل الاختصاص.. ولا يُفتح باب الاجتهاد مطلقاً فيكون سراحاً مراحاً لمن هب ودب، ولا يُغلق مطلقاً فتُحجر العقول وتُكبت الآراء.. ولا اجتهاد في ما حسَّنه النص وما لا يُسَوّغ فيه الاجتهاد.. وما كان قطعي الثبوت والدلالة.. ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه..

وقد تشكلت عند العبد الفقير قناعة أنه لا إجماع بما دون أصول العقائد وأصول الشرائع، أو بتعبير الإمام الشافعي “جُمل الفرائض”، وهي التي نستطيع أن نجملها في الحديث المتفق عليه “إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”.. وما دون الأصول فقد وقع من الخلاف الشيء الكثير، وإطلاق دعوى الإجماع فيه متعذر جداً بل يستحيل إلى حكم العدم..

ولهذا وقع من الخلاف والاختلاف في الفروع الحد الذي تجد فيه للإمام أحمد مثلاً، كما ينقل ابن قدامة المقدسي صاحب المغني، سبعة أقوال مختلفة في مسألةٍ واحدة، فتعددت واختلفت وتباينت أقواله في أمكنة وأزمنة وظروف مختلفة، حتى قال بعضهم إن الإمام أحمد في جُل إن لم يكن كل المسائل الفقهية تعددت الروايات عنه إلا ما ندر، وأن أوسع المذاهب في الروايات هو مذهب الإمام أحمد، وهذا لمرونته وسعته وثرائه الفقهي.

وللإمام الشافعي كذلك (وهو شيخ الإمام أحمد وتلميذ الإمام مالك) تجد له في المسألة الواحدة القولين والثلاثة وأكثر، وهذا جرى على سائر الأئمة وشيوخ الإسلام، فكيف ببقية جماعات الفقهاء في مختلف الأقطار والأمصار؟

وتباين الأقوال والآراء والروايات هو لأسباب كثيرة، منها عدم بلوغ النص واختلاف الناس في فهم النص، والخلاف في ترجيح النص، أو اختلاف الاستدلال والاستنباط والترجيح والعمل به عند الفقهاء في المذاهب الأربعة، واختلاف الفهم اللغوي للنص لتعدد لغات ولهجات العرب، ولهذا قيل: “اللغة باب العلم ومفتاح الفهم”، وقيل أيضاً: “العربية باب الشريعة”. وهذا كله مما لا بأس ولا حرج من الخلاف فيه ما لم ينتقل من دائرة الفروع إلى دائرة الأصول والقطعيات والكليات.. فشريعة الإسلام فيها من الثراء والتنوع ما تحتار له العقول وتعجز عنه الفهوم.

وما جرى على أهل الفقه جرى على أهل الحديث كذلك، فقد اختلفوا في تصحيح وتضعيف الأحاديث، وفي الطرق والأسانيد، وفي الجرح والتعديل وفي الرجال والرواة. فهذا الراوي ثقة ثبت عند ابن معين، وعند غيره كابن حجر أو المزّي تجده متروك الحديث. وهكذا وجرى الأمر على جميع أهل العلم في التفسير، وسائر علوم السنة والقراءات وفروع العقيدة واللغة والنحو والبلاغة، فقد اختلف الجميع وتباينوا.

علّامة اليمن الكبير الفقيه المحدِّث محمد بن إسماعيل العمراني، المولود عام 1340هـ الموافق 1922م، وهو من العلماء القلائل في العالم الإسلامي من أصحاب السند العالي، فليس بينه وبين الإمام البخاري سوى 13 راويا.. كان في ذروة وعنفوان عطائه العلمي حسب ما سمعته من بعض طلبته وتلاميذه في صنعاء؛ أنه كان يروي في المسألة الواحدة في الجلسة الواحدة عشرات الأقوال من المتقدمين والمتأخرين لجودة حفظه..

وقد صنف الإمام الشوكاني رحمه الله كتاباً سماه “إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع”، أثبت فيه الخلاف الواسع في مسألة شائكة منذ الرعيل الأول لهذه الأمة.. فليس كل دعاوى الإجماع صحيحة.. وأقوال العلماء كثيرة ولا يحصيها إلا رب العالمين، وعدم العلم بها ليس حُجة.

وفي مسائل الفقه لا يليق بالفقيه إطلاق دعوى الإجماع بما دون الأصول والقطعيات، وكأنه سيف مسلط على رقاب الناس.. بل دعواه بإطلاق الإجماع مما يقدح في علمه ونقله وأمانته العلمية، والمأمول منه حصر الحديث عن المعتمد في المذهب وترك الحديث عن الراجح والمرجوح والمردود والغريب والشاذ وخلافه.. ودون التجريح والطعن في غيره من فقهاء المسلمين، وعدم إقحام العامة في ما تجهله ومما هي في غنىً عن معرفته، وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي.. فقد تحولت الكثير من صفحات طلبة العلم على فيسبوك إلى صفحات استعراضية، وبعضها حلبات مصارعة فقهية، وبعضها الآخر مناقصات للفتوى شبيهه بمناقصات الأسهم، والله المستعان.

الإجماع حُجَّة.. فهو الأصل الثالث من أصول الفقه للمذاهب الفقهية الأربعة لأهل السنة والجماعة، فلا يجوز ولا يصح بحال إطلاقه بالجملة ولا إنكاره بالجملة، أما الأصول المجمع عليها، وهو الإجماع المتفق على حجيته والذي يُقال أن الإجماع فيه حُجَّة والله أعلم، فهو “إجماع الأمة جميعها بمجموعها” سلفاً وخلفاً سابقين ولاحقين متقدمين ومتأخرين على أصول الإيمان وأصول الشرائع وجُمل الفرائض.

وإجماع الأمة معصوم فلا يطعن في عدالتها طاعن، إلا من شذ عنها وخالف سبيلها. ولا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، وإجماعات الأمة قليلة جداً.. في أصول العقائد والإيمان، كأركان الإيمان مثلاً فهي معروفة أنها ست، فلم نسمع من خالف ذلك وقال إنها سبع!.. وأصول الشرائع كالإجماع على صحة الصحيحين البخاري ومسلم، وعدد ركعات صلاة الفريضة والإجماع على عدالة الرعيل الأول والجيل الأقدم، والآباء المؤسسين لهذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة الأربعة.. والإجماع على المقاصد والكليات الخمس التي جاءت بها الشريعة والقطعيات من المحرمات، كتحريم الشرك والتولي يوم الزحف وشهادة الزور والظلم والقتل والربا، وما هو معلوم من الدين بالضرورة والقطع بالثبوت والدلالة.. لا بالظن والشك والوهم والرأي.

ذكر بعض الباحثين أن ابن تيمية قال بإعذار المجتهد ولو كان اجتهاده في الأصول، وعندما بحثتُ في مصدر هذا القول لم أهتد إليه، وإذا صح هذا النقل فهذه كبوة جواد ولكل جواد كبوة، فكيف يُعذَر من يجتهد في “المسلَّمات والأصول” كأصول الإيمان والعقائد وأصول الشرائع وجمل الفرائض؟

الإجماعات الكلية ظاهرة عامة لا تكاد تكون مقتصرة ومحصورة على الإسلام فحسب، بل هي ظاهرة موجودة في جميع الديانات السماوية والأرضية. فكل الديانات السماوية وجل الديانات الأرضية أجمعت على ضرورة الإيمان بالله واليوم الآخر، وأجمعت كذلك على ضرورة وأهمية تكامل منظومة الفضائل والأخلاق بغاياتها العليا ومقاصدها المثلى، سعياً للسمو النفسي والكمال الإنساني والرشد العقلي والسلام الداخلي، وتحقيق العدالة والرحمة والمحبة، وتحصيل الحكمة والمعرفة، رغم طبيعة الخلاف في ماهية الإيمان وطبيعة الشعائر التعبدية. لكن هذه الأديان على ما فيها من حث على الإيمان بالله واليوم الآخر والفضائل والأخلاق؛ جميعها نُسخت بالإسلام، كما جاء في القرآن الكريم “ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين”.

وإذا كان الإنسان مسلماً صحيح الإسلام فقد جمع خيري الدنيا والآخرة بإذن الله، وإذا لم يكن كذلك فأن يكون كتابياً مؤمناً بالله واليوم الآخر فخيرٌ له ولدنياه من أن يكون لا دينياً أو ملحداً متجرداً من الأخلاق منسلخاً عن الفطرة، لا يؤمن بالخالق ولا بيوم الثواب والعقاب والحساب، عابداً لشهوته وذاته. فمن لم يكن عابداً لله كان عابداً لغيره لا محالة، ولا فكاك للإنسان من العبودية “فاستقم كما أُمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله”.. والبشرية جميعها أو السواد الأعظم منها أجمعت على مركزية الإيمان في حياة البشرية وضرورة التدين والتعبد، واللجوء والإقبال على الله الخالق لهذا الكون، والسعي إلى العدل والصدق والخير ومحبة الإنسان والفضيلة، وكراهية الشر والكذب والظلم والرذيلة.

جاء في اليهودية: “التوراة كلها هي ألا تفعل بغيرك ما يكون مكروهاً لك”.

ورُوي عن سيدنا عيسى عليه السلام: “إفعل بالناس ما تحب أن يفعله الناس بك”.

ومن الوصايا العشر في اليهودية والمسيحية على حدٍ سواء:

“لا تقتل!

لا تكذب!

لا تسرق!

لا تشهد شهادة زور!

لا تزنِ!

لا تشتهِ بيت جارِك!

أكرم أباك وأمك!”.

وتقول البوذية: “توجه إلى العالم كما تتوجه الأم نحو أبنائها”.

وفي الطاوية قول جاء فيه: “الرجل الصالح من يعتبر ربح الآخرين من ربحه وخسارتهم من خسارته”.

وقال كونفوشيوس: “لا تفعل بالآخرين ما لا تحب أن يفعله الآخرون لك”.

وفي الإسلام الدين الخاتم والناسخ لكافة الأديان، جاء في الحديث النبوي الشريف المتفق على صحته، عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه”.

وفي رواية أخرى بزيادة لفظية: “لايؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير”.

وفي حديث آخر في سنن الترمذي: “أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما”.

نقلاً عن عربي21

حول الكاتب

وسام العامري