كثرة أصدقاء المرء من سخافة دينه.

قد يبدو عنوان المقالة فيه بعض الغرابة؛ لكنها جملة قالها الإمام سفيان الثوري رحمه الله يلخص فيها حقيقة تغيب عن الكثير من الناس، ويجهلون في الوقت ذاته مآلات وعواقب كثرة الصداقات وفوائد الإقلال منها قدر الإمكان.

‏وقد سبق الثوري إلى التنبيه على هذا الأمر الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله:

‏”كفى به دليلاً على امتحان دين الرجل كثرة صديقه”.

‏لماذا.؟! لأن هذا ما قد تحمله كثرة الصداقات إلى كثرة المجاملات والمداهنات وتقل معه المصداقيات، ويأتي كل ذلك بمرور الوقت على حساب الدين فيضعف ويقل ويتناقص ثم يفسد، ولما في ذلك أيضاً من تغليب للنفعية على حساب المبدئية، والمصلحة على حساب الدين والاخلاق، فيُفتتن المرء في نفسه ودينه ودنياه، ثم قد تتبدل المجاملات وتنقلب إلى حقد وحسد وتنافس غير شريف وعداوات ظاهرية وباطنية من حيث لم يكن يحتسب أحد، والقلوب متقلبة متحولة وهي كما ورد في صحيح مسلم “بين إصبعين من أصابع الرحمن”؛ وما يجري على القلوب يجري كذلك على الأمزجة والاهواء والطباع والافهام والظنون، وحتى خيار الناس وفضلائهم من الشيوخ والعلماء وطلبة العلم والمتدينين لا يسلمون من هذه التقلبات والمجاملات الآكلة للدين والأخلاق؛ فما بالنا بعامة الناس وأراذلهم، ولا عاصم إلا الله تعالى.

‏ثم إن هذا قول الرعيل الأول والسلف الصالح في من يكثر من الصداقات العادية؛ فما بالنا بحال من لا يتحرز لدينه وشرفه ولا يصن نفسه من أصدقاء السوء، والله المستعان.!

‏أما الصديق الصادق الصالح التقي النقي المحب المتجرد لله وحده فهو أندر من الكبريت الأحمر في هذا الزمان وكل زمان، فإذا ظفرتَ به فعُضَّ عليه بالنواجذ*، واستكثر من صداقات الصالحين الصادقين “إن وجدتهم” ولا تبالي، فقد روى الترمذي وغيره بسندٍ حسن وصححه الحاكم عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي”.

وللإمام الشافعي رحمه الله أبيات جميلة في الصداقات والعلاقات قال فيها:

إذا المرءُ لا يرعاكَ إلا تكلفا

فدعهُ؛ ولا تكثر عليه التأسُّفا

إلى أن قال:

سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها

صديقٌ صدوقٌ صادقَ الوعدِ منصفا

والصداقات لا تدوم أبداً إلا تلك التي تنضبط بخط مستقيم وميزان قويم وهو الميزان الاخلاقي الارقى الذي رسمه الله في كتابه وخطه الله بميزانه وهو: “التقوى”، بأن يتَّقِ الله الجميع في الجميع؛ وأنَّى لهم ذلك، ولهذا تجد الصداقات متقلبة متبدلة على الدوام؛ صديق اليوم عدو الغد؛ وعدو اليوم صديق الغد، وهكذا.

قال تعالى في سورة الزخرف الآية 67:

“الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين”.

وأكد الله تعالى في كتابه الكريم على ذات المعنى في سورة العصر حينما قطع بخسارة الإنسان واستثنى من ذلك “الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”، وهنا يأتي المعيار المستديم لديمومة الصداقات وسر فلاحها واستمراريتها وخلودها في الدنيا والآخرة، ولهذا كان الصحابة الكرام يقرؤون سورة العصر عند افتراقهم وكانوا يتواصون بما فيها، وقد جاء في الأثر: “كان الرجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر: “والعصر إن الإنسان لفي خسر”.

‏وأختم هنا بأبياتٍ تجلت فيها الحكمة والخبرة وتجارب الحياة لابن الرومي رحمه الله وهو أحد شعراء العصر العباسي:

‏عدوُّكَ من صديقكَ مستفادٌ
‏فلا تستكثرنَّ من الصِّحابِ

‏فإن الداءَ أكثرَ ما تراهُ
‏يحولُ من الطعام أو الشرابِ

‏إذا انقلبَ الصديقُ غداً عدواً
‏مُبيناً والأمورُ إلى انقلابِ

‏ولو كان الكثيرُ يَطيبُ كانتْ
‏مُصاحبةُ الكثير من الصوابِ

‏ولكن قلَّ ما استكثرتَ إلّا
‏سقطتَ على ذئابٍ في ثيابِ

‏فدعْ عنك الكثير فكم كثيرٍ
‏يُعَافُ وكم قليلٍ مُستطابِ

‏وما اللُّجَجُ المِلاحُ بمُروِياتٍ
‏وتلقى الرِّيّ في النُّطَفِ العِذابِ

‏*النواجذ/ آخر ضرسين في نهاية الحنك.

‏⁧‫

حول الكاتب

وسام العامري