كل جهد في مواجهة جميع مظاهر الاستبداد والتفرد بالسلطة مطلوب ومن السعي المشكور، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ” لا تحقرن من المعروف شيئا”.
من جهة أخرى علينا ان نفهم ما نقدمه؛ ونفهم ما يريده الناس، سعياً للجودة والتفاضل والتكامل، ولأن الفهم قبل الإخلاص، وحتى لا نكون فريسة سهلة في جحر الضب، ولا تصبح الجهود زبَداً جُفاءا، علينا التركيز على ما ينفع الناس.
الديموقراطية نظرية سياسية متكاملة، وهي في الأصل نظام يوناني نسبةً إلى فيلسوف يوناني قديم اسمه ديموقريطس أو ديموقراط، وهو مصطلح قد تمت صياغته من شقين (ديموس) أي “الشعب” و (كراتوس) أي “السلطة”.
وتعييب فلاسفة يونانيين آخرين عليها صحيح، ولأنها تعني حكم الشعب لنفسه أو سلطة الشعب؛ فتعني بالضرورة جميع الشعب بمن فيهم الغوغاء وأهل الجهل والاهواء والمجرمين والحمقى والمختلين، ويتساوى فيها الصالح والطالح؛ الحكيم والأحمق؛ العالم والجاهل، فالجميع هنا بالتساوي على قدم واحدة في التشاركية والمسؤولية العامة؛ وهذه من عيوبها ومثالبها الكبرى، وهي بالأخير مجرد نظرية مرت بالكثير من التحولات التاريخية والتغيرات السياسية كان بعضها في قمة الهزلية.
في الإسلام الحكم لله ورسوله وليس للشعب، ومفهوم سيادة الأمة في الإسلام يختلف جذرياً عن مفهوم سيادة الشعب في الديموقراطية الغربية، ويقوم النظام السياسي الإسلامي التشريعي أو ما سمّاه القرآن الكريم اختصاراً: “الشورى” على استفتاء أهل الحل والعقد والعلم والخبرة والتجربة والاختصاص، وليس على إحصاء الرؤوس باعتبار وحيد يتمثل في وصول الفرد للسن القانونية في أحقية التصويت دون أخذ بقية الاعتبارات في الحسبان.
هنا نقطة مهمة ينبغي توضيحها في ما يتعلق بالحاكمية لله ورسوله؛ فالحكم في القرآن جاء على معنيين: في الحاكمية التشريعية المطلقة لله ورسوله في الأصوليات والكلّيات والقطعيات؛ ثم في ما يتحاكم البشر فيما بينهم من الممارسات والتفصيليات والفرعيات والجزئيات، فالقاضي يحكم في محكمته والأب يحكم في أسرته والمسؤول يحكم في دائرته وهكذا، ولا يعني أبداً مفهوم الحكم لله ورسوله نزع الحاكمية من الشعب ومنحها للحاكم الفرد المستبد؛ أو تهيئة البيئة الخصبة لنشوء الاستبداد؛ بل هي ممارسة تنفيذية تشاركية يسعى الجميع لتطبيقها سعياً لإعلاء كلمة الله وتحقيق العدالة ودفع المظالم وجلب المصالح ودرء المفاسد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لدى علماء الأصول في الإسلام عبارة تقول: “لا مشاحة في الاصطلاح” وأخرى تقول: “العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني”، فتحقيق العدالة محمود ومطلوب ولو جاءت بأي تسمية كانت؛ سواء بالشورى أو الديموقراطية ونحو ذلك، لكن ينبغي أيضاً عدم التغافل عن كون الديموقراطية في تركيبتها البنيوية الحالية القائمة على الفلسفة الليبرالية الغربية ليست صالحة للمسلمين؛ وقد كتب بعض علماء الإسلام المعاصرين مثل القرضاوي والغنوشي وغيرهم في إمكانية أسلمة الديموقراطية بحيث تصبح ممكنة التطبيق في المجتمعات الإسلامية، بل إن الغنوشي ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير وكتب في إمكانية “أسلمة العلمانية” في ضرب من ضروب المثالية المفرطة التي تتعارض مع بنيوية العلمانية وتركبيتها الفلسفية والأيديولوجية، في المقابل رد عليهم العديد من الكتاب والمفكرين والمتخصصين منهم فهد العجلان وإبراهيم السكران وسلطان العميري وكتبوا الكثير من الردود عليهم في نقض أسلمة الديموقراطية.
وتحقيقاً لمبدأ التوازن بين المثالية والواقعية وكي لا نفرط في المثالية على حساب الواقعية؛ فقد أثبتت الأحداث بما لا يدع مجالاً للشك أن الديموقراطية غير صالحة نظرياً وعملياً؛ ولو تم تطبيقها على المسلمين لانتهى الإسلام من قديم، ولو لم تكن الديموقراطية منتجاً غربياً ما قبلها أحد ولا أُعجبَ بها معجَب، لكن للشعر الأصفر والعيون الزرقاء والتمكن المادي والعلمي الهائل بريقاً وسطوة.
نزعة الحكم في الإسلام ربانية تقوم على حفظ الدين والبشرية وكافة المخلوقات وتحقيق المقاصد العليا التي جائت بها الشريعة، بينما نزعة الحكم في الديموقراطية الغربية مادية محضة ونفعية براغماتية صرفة ولو سُحق الإنسان؛ وتقوم في الأساس على تأليه المصلحة وتقديس المادة على حساب الفطرة الإنسانية والكرامة الآدمية.
في تاريخ الإسلام نموذجين تم تغليب رأي الأقلية فيه على الأكثرية:
الأول/ نموذج سقيفة بني ساعدة؛ عندما تم تغليب رأي ثلاثة أشخاص فقط على رأي اكثر من خمسين شخص.
الثاني/ نموذج اعلان حروب الردة وقتال مانعي الزكاة بداية العهد البكري؛ حينما تم تغليب رأي شخص واحد فقط على رأي عشرات الصحابة وفيهم عمر.
فلهذا الديموقراطية ليست بالضرورة صالحة دائماً، حتى في الغرب نفسه الذي يتشدق بها ويقدسها كصنم العجوة ويكفر بها دائماً خاصة إذا جاءت لصالح المسلمين؛ والشواهد كثيرة ومنها التالي على سبل الذكر لا الحصر:
1- تجربة مرسي في مصر عام 2013م.
2- تجربة حماس في غزة عام 2006م.
3- تجربة جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر 1992م.
4- التقويض المتكرر للديموقراطية في الكويت.
5- تقويض الديموقراطية في لبنان والعراق عبر المحاصصة الطائفية.
6- تقويض الديموقراطية في سوريا عبر وحدة جمال عبد الناصر ثم انقلاب حافظ الأسد.
7- تقويض الديموقراطية في تونس عبر قيس سعيد المدعوم من الجيش التونسي داخلياً ومن الامارات والسعودية وفرنسا خارجياً.
8- تقويض الربيع العربي بالمال الخليجي والدعم الغربي وإعادة تدوير نظم الديكتاتورية ودوائر الاستبداد.
في الشرق الأوسط وخاصة في الدول العربية تم اعتبار الديموقراطية سلعة محرمة تحريماً قطعياً على العرب؛ وحرمان الجميع بلا استثناء من الحصول عليها بجميع الاشكال والصور سلماً أو عنفاً، ولم يُسمح بممارستها إلا في إسرائيل وحدها دون غيرها كامتياز حصري لكون فئة غير قليلة منهم ينتمون لمجتمع البيض أو ما يُسمون “الأشكناز” واحتكروا لأنفسهم جميع مناصب رئيس الدولة ورئيس الوزراء وقيادة الجيش.
وقد يظن البعض أن هذا الأمر قد دُبّر لجعل إسرائيل تتفاخر بكونها واحة الديموقراطية الوحيدة في غابة شرق أوسطية تلفها الديكتاتوريات من كل جهة، بينما حقيقة الأمر وجوهره ليس كذلك أبداً؛ إنما هو نوع من الاحتكار القسري والامتياز الحصري للبيض وضرب من ضروب الاستبداد الأنيق، ثم لا مانع من التفاخر بالمغالطات المنطقية والأكاذيب المنمقة أحياناً.
وهذا أيضاً يؤكد على حقيقة أن الغرب نفسه يعيش في منظومة استبدادية كاملة سياسية وحزبية وفكرية واقتصادية واجتماعية مغلفاً كل ذلك بغلاف خادع مراوغ لكنه أنيق جذاب؛ وهو غلاف الديموقراطية والشواهد كثيرة (آخرها الاستبداد الجندري؛ والقمع الوحشي لمظاهرات طلاب أمريكا وأوروبا الرافضة لاستمرار إبادة أهل غزة).
وللمفارقة أن هذا الغرب العنصري لم يكتفي بحرمان العرب من الديموقراطية؛ بل عاقبهم وأسرف جداً في معاقبتهم والتنكيل بهم؛ عندما تجاسروا على دق أبواب الديموقراطية؛ والسعي لنيلها والمطالبة بها، حتى لا يجرؤوا بعدها على مجرد الحلم بما هو امتياز حصري للسيد الأوروبي الأبيض كما حصل في:
1- العشرية السوداء في الجزائر بعد انقلاب الجيش الموالي لفرنسا على جبهة الانقاذ، ونشر المجازر وبث الذعر والقتل في القرى والمدن لعشر سنوات كاملة إمعاناً في الخوف والذل وكسر النفوس ليمتد أثر هذا الاذلال والرعب لأجيال قادمة.
2- معاقبة أهل غزة بحصار خانق لسنين طويلة، وشن الحروب الدموية المتكررة عليها منذ 2006 وإلى اليوم.
3- معاقبة شعوب الربيع العربي؛ كما حصل في مصر ما بين عامي 2013 إلى 2015 في ميادين رابعة والنهضة وشارع رمسيس ومنصة الحرس الجمهوري ونادي الزمالك وماسبيرو وغيرها الكثير؛ قُتل فيها الآلاف من خيرة شباب وبنات مصر على يدي الجيش المصري الموالي للولايات المتحدة الأمريكية والممول خليجياً.
وكذلك معاقبة بقية شعوب الربيع العربي كما جرى ويجري إلى اليوم مع الشعب السوري والليبي واليمني والسوداني.
مسرحية الديموقراطية تشهد اليوم فصولها الختامية في تاريخ الحضارة الغربية المادية بحسب رأي بعض المفكرين الغربيين، وعاجلاً أو آجلاً سوف ينهار هذا الجدار، بعد أن ضاقت الكثير من مجتمعات الغرب ذرعاً بالعيش تحت ظل هذه الاكذوبة التي عاشت طويلاً، ورغم كونهم مستفيدين جداً منها؛ إلا أن الديمقراطية أوجدت بيئة خصبة لتكاثر المنحرفين والمجرمين والمجانين، وهو ما دفع مجتمع اليمين المحافظ والمتدين واليمين المتطرف ويمين اليمين لترجمة هذا الغيظ ببروز دونالد ترامب وبوريس جونسون وخافيير مايلي.
ولهذا على المسلمين الايمان بما يحملون من الهداية الكبرى والرسالة العظمى، ليس من باب ردة الفعل ولكن من باب أخذ الكتاب بقوة وتولي زمام المبادرة التي تأخروا عنها طويلاً؛ وتدارك أنفسهم في استعادة الثقة بذواتهم والعودة لدينهم وحضارتهم وثقافتهم؛ واستخراج ما لديهم من نفائس وفرائد وكنوز ودرر حتى تتحقق لهم أستاذية العالم والشهودية الحضارية والوسطية الأممية؛ وهم جديرون بهذا التفرد الذي لا يليق إلا بهم وحدهم دون غيرهم في هذا العالم البائس؛ وبهذه القيادة والصدارة لإنقاذ البشرية التي ستخسر كثيراً بانحطاطهم وتراجعهم الحضاري.
هنا ملاحظة جانبية ينبغي الإشارة إليها والتأكيد عليها: وهي جزئية الانتخابات؛ لكون البعض لا ينظر إلى الديموقراطية إلا من زاوية حرية الاقتراع والتصويت فقط؛ وهذه نظرة قاصرة جداً واختزال عجيب، فهي أشمل من ذلك بكثير؛ وحرية الاقتراع جزء منها.
حرية الاقتراع والتصويت موجودة في الإسلام منذ الصدر الأول؛ وهي قيمة أصيلة في التشريع السياسي الإسلامي وسنن الخلفاء الراشدين ابتدأت منذ عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولا حاجة للمسلمين في أخذ هذه القيمة الحضارية العليا من غيرهم وفي تشريعاتهم السياسية الإسلامية الغِنى والكِفى، بل إن جميع عبقريات اليونان والرومان في النظريات السياسية والتشريعية مهما بلغت ونبغت فلن تبلغ عشر معشار ما انتجته عبقرية عمر بن الخطاب وحده في السياسة والتشريع.
نظام الشورى في الإسلام “كتشريع سياسي إسلامي” أكثر رقياً وتكاملاً وشمولاً من نظام الديموقراطية الغربية؛ وأكثر توافقاً في جميع الجوانب مع الفطرة الإنسانية السوية وحفظاً للكرامة الآدمية الإنسانية، وأكثر استيعاباً لجميع شرائح المجتمعات بجميع اختلافاتهم الدينية والاثنية والقومية واللغوية والعرقية، وفيها الكثير من تفاصيل أوجه التفاضل التي لا يتسع لها هذا المقال القصير لذكره، لكن من باب الاقتصار والحصر يأتي في أولها وأهمها على الإطلاق أن بنيوية الديموقراطية أكثر تقديساً لنفسها من تقديسها للإنسان.
في الغرب الديموقراطية أهم من الإنسان؛ ولو سُحق هذا الإنسان، والمقصد بالإنسان هنا ليس الإنسان الأبيض؛ بل هو تحديداً كل إنسان لا ينتمي للمجتمع الأوروبي الأمريكي الأبيض، إفريقياً كان أو عربياً أو هندياً أو لاتينياً أو آسيوياً أو من السكان الأصليين لأستراليا ونيوزيلاندا، بينما في الإسلام الأصل هو: “ولقد كرمنا بني آدم”، فالكرامة هنا للآدمية الإنسانية وحدها دون غيرها، بعيداً عن اعتبارات التفاضل النوعي والعرقي والطبقي واللوني؛ التي يعتبرها الإسلام ضرباً من ضروب الجاهلية والشيطانية والوثنية.
الفيلسوف الإسلامي الكبير عبد الوهاب المسيري رحمه الله ذكر في بعض محاضراته كيف ان الديموقراطية معيبة وشائهه وغير صالحة للعرب والمسلمين، وانها لم تُصنع إلا لصيانة وحفظ حقوق البيض فقط؛ وهذا ما دفعه لتسميتها بالديموقراطية البيضاء، وهو ما أكده أيضاً المفكر الأمريكي الدكتور جيفري ساكس أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا الامريكية في منتدى أثينا للديموقراطية بان الديمقراطية لم تُكتب إلا لحفظ امتيازات الأقلية البيضاء في دول الغرب والعالم.
وللمفكر والفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي كلاماً طويلاً وصادماً في بعض جوانبه عن الديموقراطية معتبراً إياها مجرد كذبة قذرة جداً؛ وكيف أن من اخترعوها من اليونان كانوا أشد الناس استعباداً لغيرهم وهضماً لحقوقهم، فكان في أثينا كما قال: “12 ألف مواطن يوناني حر مقابل 110 آلاف عبد مسحوق تماماً من الإنسانية والكرامة ومحروم كلياً من جميع الحقوق”، وهو ما جعل الديموقراطية تستمر على ذات الوتيرة نفسها إلى اليوم في تقديس ذاتها وأبناءها الأصليين وحرمان غيرهم من الحقوق، لكن تختلف الصور النمطية في كيفية ممارسة ذلك عبر العصور المختلفة.
أختم هنا بقول أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله حينما قال:
وللحرية الحمراء بابٌ.
بكل يد مضرجةٍ يُدقُّ.