جُلّ العرب والمسلمين إن لم يكن كلهم ربما لا يعرفون عن سماحة العلامة عبد المجيد الزنداني رحمه الله سوى تفرده وبراعته فيما يتعلق بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وقد كانت للشيخ الكثير من صفحات حياته الغير مروية وصولاته وجولاته في الدعوة والفكر والعلم والاعجاز والطب والسياسة والجهاد والتضحية، وللتاريخ سأروي هنا صفحة واحدة فقط من صفحات الشيخ الكثيرة التي لم تُروى ولا يعرفها الكثير.
شهدت منطقة العالم العربي والإسلامي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي الذي لم يكن استثناءً عن غيره من سائر مناطق العالم كدول آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية بل وحتى دول الغرب نفسها موطن الليبرالية ومنبع الرأسمالية هجمة فكرية شرسة تمثلت في انتشار المد اليساري الجارف بكل مسمياته وتبايناته تطرفاً واعتدالا؛ بدعوى الانتصار للعمال والفقراء مستخدمين بذلك الكثير من الشعارات مثل “يا عمال العالم اتحدوا” وغير ذلك من الشعارات ذات البريق المزيف الخادع، وقد صمدت أمامه دولاً وانهارت أخرى، وكانت لدولة جنوب اليمن منه نصيب.
دوّن التاريخ الحديث بكل أسف أن دولة جنوب اليمن كانت فريسة سهلة أمام هذا المد اليساري العنيف، بل كانت الماركسية اليمنية الجنوبية هي النسخة الأكثر تطرفاً وجنوناً بين بقية ماركسيات الوطن العربي، إلا أن الشيخ عبد المجيد الزنداني استطاع بكل دهاء وحنكة منقطعة النظير مقتنصاً الفرصة التاريخية عندما سُنحت له ولم يسمح بتفويتها رحمه الله وتمكن من دفن الماركسية تماماً؛ بل ودفن معها حلم استعادة دولتها في جنوب اليمن عام 1994م بلا عودة، وهذا ما يفسر حقد بقايا الماركسية في الجنوب اليمني عليه إلى اليوم.
هل تعلم أخي القارئ أن الماركسيين في جنوب اليمن:
منعوا الحج والعمرة لعدة سنوات؛ بل وصل بهم الأمر أنهم كانوا يعتقلون ويعذبون كل شيخ يُرغّب الناس في المساجد بالذهاب للحج والعمرة، بدعوى منع الناس من السفر إلى السعودية؛ وكانت من التهم التي تُوجه للعلماء وخطباء المساجد وقتها (تهمة ارتكاب جريمة ترغيب الناس للذهاب إلى مكة)؛ فكان من يريد الحج وزيارة الأراضي المقدسة يسافر إلى شمال اليمن بحجة زيارة اقاربه هناك ثم يسافر إلى مكة خلسة؛ حتى تدخلت بعض الدول كعمان وغيرها للسماح لليمنيين الجنوبيين بالحج والعمرة.
افتتحوا مصنعاً للخمر في عدن (مصنع صيرة) وكان الاكبر على مستوى الجزيرة العربية وقتها.
نشروا ثقافة السفور وخلع الحجاب وجندوا النساء بالقوة وقننوا الدعارة رسمياً.
فرضوا الالحاد قسراً، ونشروا ثقافة ماركس القائل (لا إله والحياة مادة) وكانت هذه الجملة تُكتب على جدران المنازل.
قتلوا العلماء والدعاة والأئمة والخطباء وسحلوهم بالميادين والطرقات (بعضهم ربطاً ودهساً بالسيارات العسكرية) وكانوا يصرخون كالمجانين فوق رؤوسهم بعبارة (لا كهنوت بعد اليوم).
جرّموا كتابة وقول (بسم الله الرحمن الرحيم) واستبدلوها بكلمة (باسم الشعب) في الخطابات والمراسلات الرسمية وفي المدارس والجامعات.
نشروا ثقافة الإفطار العلني وشرب الويسكي والفودكا الروسية والبيرة الكحولية في نهار رمضان بكل تحدي واستفزاز لعادات وتقاليد المجتمع اليمني الجنوبي المحافظ.
الماركسيون في جنوب اليمن فعلوا باليمنيين الجنوبيين مالم يفعله أتاتورك بالترك؛ ومالم يتجرأ على فعله عبد الناصر بالمصريين وحافظ الأسد بالسوريين وبورقيبة بالتونسيين.
ويذكر أحد قادة الاتحاد السوفيتي السابقين في مذكراته عندما زار دولة جنوب اليمن حينها متعجباً ومصدوماً في الوقت ذاته؛ كيف أن اليمنيين تشربوا العقيدة الماركسية إلى حد الجنون، وكيف أنهم أصبحوا ماركسيين أكثر من الماركسيين الروس أنفسهم.
حينما جائت الوحدة اليمنية المباركة بين شطري اليمن عام 1990 لم يشارك التيار الماركسي الجنوبي المتمثل وقتها بالحزب الاشتراكي اليمني في الوحدة اليمنية عن نية صافية ورغبة صادقة في إنهاء الفرقة اليمنية التي استمرت لعقود أو حباً بالوحدة؛ بل كانت لأهداف خبيثة ونوايا شيطانية تجلّت لاحقاً؛ وأبرزها وأكثرها وضوحاً كانت رغبتهم الصريحة وأطماعهم الواضحة في السيطرة على شمال اليمن كما كانوا يسيطرون على جنوبه ولتعميم الفكر الماركسي الإلحادي على شطري البلاد.
وتجلّت رغبتهم هذه بعد فشلهم في تحقيق فوزهم الانتخابي الذي كانوا يأملونه وينتظرونه من انتخابات ابريل عام 1993؛ فقد جائت النتائج على غير ما يشتهون وكانت صادمة جداً بالنسبة لهم؛ بعد أن حلّوا في المركز الثالث بعد حزب المؤتمر وحزب الإصلاح ذو التوجه الإسلامي، وكانت هذه الانتخابات في وقتها هي الأكثر إقبالاً في تاريخ اليمن الحديث ووصلت نسبة المشاركة الشعبية في جميع مدن اليمن شماله وجنوبه إلى أكثر من 84%.
خبر هزيمتهم الانتخابية نزلت عليهم كالصاعقة؛ وكانت الهزيمة التي لم يستطيعوا أن يتحملوها أو يتقبلوها أو حتى يستوعبوها ردحاً من الزمن؛ فكيف لأتباع حزب كانوا يقمعوهم بالأمس القريب جداً ويقتلوهم ويطاردوهم ويسحلوهم بالميادين أن تكون لهم الغلبة عليهم بالصندوق؛ وخاصة وانهم الفئة المجتمعية التي يكرهوها بشدة وبتطرف هستيري وقح مبالغ فيه جداً وغير مفهوم وغير مبرر؛ فقد كان الماركسي الاشتراكي مستعد “وإلى اليوم” أن يتقبل الشيطان نفسه لكن مستحيل أن يتقبل وجود متدين يشاركه الحياة السياسية العامة، والإسلامي المتدين الجيد في نظر الاشتراكي هو ذلك الإسلامي المقتول أو المسجون فقط، أما غير ذلك فهو عاجز عن تقبله! وهذا ما قادهم فيما بعد إلى تفجير الوضع وإعلان فك الارتباط عن الدولة من طرف واحد وإعلان الانفصال والتمرد المسلح في السنة التي تلتها مباشرة عام 1994م.
اندلعت حرب استعادة أراضي الدولة والقضاء على المتمردين الذين غلّبوا مصالحهم الشخصية والحزبية والماركسية على مصلحة البلد والوطن والشعب اليمني المسلم المتمسك بدينه المعتز بهويته الفخور بحضارته العربية الإسلامية في الشمال والجنوب، وكانت حرباً شرعية مستحقة؛ لم يُظلم فيها أحد من أهل الجنوب كما زعموا وروّجوا لذلك لاحقاً عبر سلسلة لا تنتهي من الأكاذيب القذرة والأباطيل السخيفة وبكائيات ولطميات مضحكة شبيهة بتلك البكائيات للشيعة الرافضة على أكذوبة كسر ضلع الزهراء.
بل إن الواقع في ذلك الوقت يشهد بأن أكثر مشاريع الدولة في التنمية والتطوير والتعمير والتصنيع كانت تذهب لمدن الجنوب أكثر بكثير من مدن الشمال في الوقت الذي كانت تُهمل فيه بعض مدن الشمال نفسها كتعز وإب والحديدة، لكن الحقد الماركسي يُعمي.
كان الشيخ عبد المجيد الزنداني بعد الوحدة اليمنية عام 1990 يشغل منصب عضو مجلس الرئاسة اليمنية أعلى سلطة في الدولة وقتها، وأثناء دخول اليمنيين في حرب 1994 كان يحمل صفة رسمية ويتمتع بسلطة رسمية.
وإضافة إلى عضويته في مجلس الرئاسة كان أيضاً بدرجة نائب رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح.
دخلت اليمن في الحرب مكرهة وانتصرت شرعية الدولة والشعب على التمرد الانفصالي ذو النزعة الماركسية الالحادية الواضحة في حرب شرعية كاملة من جميع النواحي لا غبار على ذلك البتة.
عندما فُتحت عدن؛ كانت القوات العسكرية الأولى الداخلة إلى عدن هي القوات العسكرية التابعة لشيخ الإسلام عبد المجيد الزنداني رضي الله عنه؛ فاتصل بهم الإمام الزنداني وأمر بإعادة تشكيل أنفسهم إلى مجموعتين؛ وأن تتحرك المجموعة الاولى فوراً إلى:
مصنع صيرة للخمور لهدمه وتسويته بالأرض (تحولت الارض لاحقاً لمصنع اسمنت).
والمجموعة الثانية إلى:
مقر وزارة الداخلية الجنوبية، وكان المبنى في الاصل هو “المعهد العلمي الاسلامي” الذي انتهى الامام البيحاني رحمه الله من بناءه عام 1957 بتمويل من الملك عبد العزيز ثم من الملك سعود وغيرهم من الملوك وأثرياء العالم الإسلامي وخاصة أثرياء الحجاز وحضرموت، وكان البناء الاضخم في عدن في ذلك الوقت.
لكن الماركسيون الملاحدة احتلوا المعهد عام 1969 (بعد انقلاب دموي همجي على السلطة الشعبية بتمويل مصري من المجرم جمال عبد الناصر وبعض القوميين العرب وكانت جناية القوميين العرب كبيرة بحق جنوب اليمن وايضاً دعم سوفيتي بعد خروج الاحتلال البريطاني من عدن بعامين فقط)؛ واحرقوا مكتبته الضخمة بكل ما فيها من نفائس ونوادر ومخطوطات كانت قد جُلبت من تركيا وإفريقيا وإندونيسيا وجُمعت من شتى أرجاء العالم الإسلامي، وكاد الماركسيون أن يقتلوا الشيخ الكفيف الامام البيحاني وقد هموا بقتله والتمثيل بجثته؛ لولا لطف الله ثم نجاحه بالفرار إلى تعز بمساعدة بعض أهل عدن، واستقبله في تعز الوجيه هائل أنعم وأكرم وفادته وأحسن استقباله؛ ورثى “ابن محافظة شبوة” الشيخ الجنوبي محمد سالم البيحاني عدن وما جرى بها من وقائع وأحداث مؤلمة في قصيدته التي وثق فيها لتلك المرحلة السوداوية في تاريخ جنوب اليمن جاء في مطلعها:
آح يا قلبي المعنى ثم آح
لستُ أدري لستُ أدري هل يُباح
أم حرامٌ في الأقاويل الصحاح
أن يبث المرء آلام الجراح
أنبئوني يا صماصيم الكفاح
ما على الصبّ إذا ما قال آح
بعد استيلاء الماركسيين على المعهد جعلوه مقراً لتعذيب العلماء والدعاة وطلبة العلم، ثم مقراً لوزارة داخليتهم، وبمرور الزمن أصبح “المعهد السابق الذي بُني ليكون منارة علم ونور” هو المبنى الأكثر إثارةً للرعب والذعر والفزع لأهل عدن وسائر اليمنيين الجنوبيين وخاصة المتدينين والإسلاميين منهم.
وثّق لهذه الحقبة المظلمة العديد من المصادر التاريخية، وكان ممن ذكر بعض هذا ووثقه أحد قادة حرب 94 الوزير والسفير اليمني الأسبق اللواء ركن الدكتور عبد الولي الشميري في كتابه “ألف ساعة حرب” بالوثائق والمستندات والصور والأدلة.
بعد فتح 94 أمر سماحة الإمام الزنداني باسترداد المعهد؛ وإعادته معهداً دينياً إسلامياً ومناراً علمياً ودعوياً كما كان؛ وكما أراد صاحبه الأول رحمه الله، وأُطلق عليه اسم معهد الامام البيحاني.
العجيب أن عصابات وميليشيات الانتقالي الإرهابية (الممولة إماراتياً والمدعومة سعودياً) عندما احتلت عدن مؤخراً في 2019 ذهبوا فوراً إلى معهد البيحاني وقاموا بتخريبه وإحراق مكتبته مجدداً وإغلاقه في حقد ماركسي دفين قديمٌ متجدد.
هل علمتم لماذا شتموا الزنداني ولعنوه وفرحوا بموته؟؟!
فليعلم هؤلاء الرعاع:
إن مات الزنداني فقد ترك خلفه 20 مليون زنداني.
وصدق الله تعالى:
(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
وسام العامري