‏الإخوان.. وحكام العرب بين الأمس واليوم

جُنَّ جنون أبواق الثورة المضادة، وخاصة الإعلامية منها على وسائل التواصل الاجتماعي، من انتصارات الثوار الأخيرة في ‫ليبيا على الانقلابي خليفة حفتر وإخراجه ومليشياته من غرب ليبيا، مما دفعها لفتح إسطوانتها الصدئة مجدداً لشتم الإخوان المسلمين (وتركيا وقطر أيضاً) بصورة هستيرية تصل حد الهذيان المجنون، وكأن معركة دول الثورة المضادة هي مع نقائضها (كالإخوان وقطر وتركيا)، وليست مع الشعوب العربية التواقة إلى الحرية والاستقلالية والكرامة الإنسانية. وهذا ما تصنعه للأسف فلسفة ومنطق الثنائية الحادة (نحن وهم)، وكأنه لا شعوب تنشد العدالة في المنطقة.! أما مسألة خلل الأولويات وانحراف البوصلة فقصة أخرى.!

ورغم كثرة الجراحات والسهام والحراب التي وجهتها الثورة المضادة في صدور الإخوان مؤخراً، لكن الحقد المجنون أعماها وطمس على بصيرتها وبصائرها، وكأن قادتها لم يشبعوا بعد من إرواء غرائزهم وإرضاء ساديتهم! مع علمهم تماماً أن حربهم المفتوحة ضد الإخوان ما هي إلا حرب عدمية عبثية صفرية لا قيمة لها، ودوران في حلقة مغلقة.

فرغم ما لاقته الجماعة من عربدة الثورة المضادة، إلا أنها لا يزال لها تواجد حقيقي في الشارع والمشهد العربي والعالمي اليوم، ولا يزال لها وإلى اليوم تمثيل رسمي في 14 برلمانا عربيا، منها برلمانان خليجيان (الكويت والبحرين)، أي أن الإخوان مُمَثلون برلمانياً وتشريعياً في أكثر من نصف الدول العربية، ولهم تمثيل وزاري أيضاً في عدة حكومات عربية بالأمس واليوم، منها تونس والمغرب والجزائر والأردن وفلسطين والبحرين وليبيا واليمن والسودان والصومال، وكان منهم رئيس دولة عربية (مصر)، ونائب رئيس دولة (اليمن والعراق والسودان)، ورئيس وزراء (فلسطين والمغرب وتونس)، ونائب رئيس وزراء (فلسطين وتونس واليمن والسودان وسوريا) ورئيس برلمان (اليمن ومصر والسودان وتونس).

ورئيس جمعية الإصلاح البحرينية (إخوان البحرين) الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة، من أسرة آل خليفة الحاكمة في البحرين، والتقى بحسن البنا في أربعينيات القرن الماضي في مصر، هذا ناهيك عن حضورهم التفاعلي في الجامعات والنقابات والجمعيات والأحزاب والأندية والحركات الحقوقية والمدنية والأدبية والفنية (منذ أيام مسرح الإخوان في مصر الذي أسسه عبد الرحمن البنا شقيق حسن البنا، وساهم في تخريج كوكبة من نجوم الفن والمسرح منهم عبدالمنعم مدبولي ومحمود المليجي وحسين صدقي) والطلابية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والخيرية.

والخلاصة أن “الإخوان” لا يزالون رقماً صعباً في المشهد العربي اليوم بعد كل ما جرى عليهم ونزل بهم، فهم يمثلون أكثر من ثلث الشارع العربي تقريباً، وعلى أقل تقدير، وهذا ما يجعل من محاولات استئصالهم مستحيلة جداً. ولهذا لا تزال دول الثورة المضادة تعاني من مواقف محرجة ومرتبكة وصعوبة بالغة جداً من موقفها المتصلب في توصيف الجماعة بـ”الارهابية” على المستوى القانوني والحقوقي والصعيد السياسي عربياً ودولياً.

ولا ننسى أو نُغفل الإشارة بأن الإخوان قد شكلوا عبر كتبهم وشيوخهم وأدبياتهم وشعرهم وفكرهم الإسلامي المتوازن؛ وجدان وشخصية المواطن العربي لعقود من الزمن، حتى أن بعض المصادر الصحفية ومنها نيويورك تايمز الأمريكية، تذكر أن محمد بن زايد كان متأثراً بالقيادي الإخواني المصري الدكتور عز الدين إبراهيم، أول رئيس لجامعة الإمارات وأحد تلاميذ العلاّمة يوسف القرضاوي، قبل ابتعاث محمد بن زايد الى لندن للدراسة العسكرية!

الحرب المسعورة ضد الإخوان بالأمس واليوم ليست جديدة عليهم، وليس أيضاً لأنهم “إخوان” أو لأنهم مجرد مجموعة فكرية دينية وكفى! لا.. فقد تحالفت معهم بعض دول الثورة المضادة وعلى رأسها السعودية والإمارات لعقود من الزمن، وإنما لما يشكله الإخوان من ثقل استراتيجي هائل في الشارع العربي اليوم، وبوصفهم أيضاً كبرى حركات الإسلام السياسي السني وأم الحركات الإسلامية، وحاضنة الربيع العربي الذي انطلق من تونس، ومصر ورافعته الطبيعية، وقدرتهم المرنة على تشكيل الوعي العربي والإسلامي بشقيه الجمعي والفردي، والصخرة الكبرى التي تفتت أمامها جميع مشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني ومشاريع التدجين أمام الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله. فلهذا اعتبرهم قادة الثورة المضادة (وبتوجيه من مشغليهم) الخطر الأكبر عليهم، ولهذا فضل قادة الثورة المضادة مواجهة الإخوان ومحاولة استئصالهم، عوضاً عن مفاوضتهم واحتوائهم والتحالف معهم!

ومن المهم التنبيه هنا إلى تحفظ بعض الأفراد والنخب العربية والإسلامية على جماعة الإخوان، بسبب بعض أخطائهم في السلوك والفكر والمنهج والممارسة والوسائل، وإن كانت بعضها “تحفظات وانتقادات مبررة”، لكن هذه التحفظات في بعضها قد تكون تحاملية مجحفة وغير منطقية بالمطلق، وقد تنطلق من أحقاد وعُقَد شخصية أو خلافات جانبية، وقد تأتي من باب سلخ المسلوخ وعملاً بالمثل العامي الدارج “ادهنوا المدهون والاغبر انثروه برماد”!

ومع الحديث عن أخطاء الإخوان عموماً، سواء صغرت أم كبرت، دقت أو جلت، فإن فواجب الوقت الآن هو في مواجهة الثورة المضادة والاستبداد والطغيان. والشيخ محمد الغزالي رحمه الله عندما طُلب منه نقد الإخوان في زمن عبد الناصر وذكّره السائل بأنهم قد فصلوه، كان رده: “ليس من أخلاقي أن أُجهز على جريح”.

اعلم بأنك إن طلبتَ
مهذباً رُمتَ الشططْ
من ذا ما أساء قطْ
ومن له الحسنى فقطْ

 إذا كانت دول الثورة المضادة تراهن على حجم الخسائر التي تنزل على ‫الإخوان المسلمين طيلة هذه السنين للفت من عزيمتهم والنيل من إرادتهم وإفنائهم من الوجود، فهم يراهنون على بغل أعرج وليس على حصان خاسر، فأحكام الإيجاد والإفناء والعدم من الوجود بيد الله وحده، والإخوان ما هم إلا خلقٌ من عباد الله وأمرهم بيد خالقهم، وليس لأحد من خلق الله من أمرهم شيء. فالإخوان قد ألفوا وتطبعوا على مواجهة الابتلاءات، ولهم خبرة طويلة في تعويض الخسائر والنهوض مجدداً من أيام ضربة 1954م في ‫مصر على يدي جمال عبد الناصر.

وكان الأخير قد وقف منتشياً في العاصمة السوفييتية موسكو في بداية ستينيات القرن الماضي، ليعلن للعالم أجمع القضاء على جماعة الإخوان المسلمين نهائياً، ليس في مصر فحسب، بل في الوطن العربي كله. وفي الوقت الذي اجتاح المد الفكري الناصري البلاد العربية من المحيط إلى الخليج، بسبب تأثر العرب بالصوت الإعلامي الواحد المتمثل في إذاعة صوت العرب وصوت المذيع أحمد سعيد، عاد جمال عبد الناصر مجدداً ليخطب من ذات المكان في موسكو في منتصف ستينيات القرن الماضي، ليقول إنه اكتشف خلية سريه للإخوان المسلمين بقيادة سيد قطب وسيقضي عليهم مجدداً، لكنه قضى قبل القضاء على الإخوان.

فلهذا مهما حاول حكام العرب القضاء على الإخوان وأنفقوا كل أموالهم في حروب عبثية عدمية في محاولة النيل منهم، ستبوء حملتهم بالفشل، ولهم في هزائم جمال عبد الناصر عظة وعبرة.

والسؤال الذي يتبادر الى الذهن هنا: متى يتبصر القوم سبيل الرشد؟!

نقلاً عن عربي21

حول الكاتب

وسام العامري