العقل.. ذلك المخلوق الشريف

جادلني طويلاً وعندما رددت عليه باقتضاب مستشهداً بقول أحد كبار علماء الإسلام في هذا العصر قال لي: “هذا شيخ عقلاني لا نقبل منه صرفاً ولا عدلا”..

فقلتُ له متعجباً: سبحان الله! وبصرف النظر عن صحة تصنيفك هذا، لكن أجعلتَ من العقل مسبةً وتهمة؟! ما لكم كيف تحكمون!

العقل في الشرع أصل التشريف ومناط التكليف، وبدونه لا تشريف ولا تكليف، في غيبته يرتفع التكليف، وبنقصانه (كالضعف أو الضمور العقلي وتأخر نموه أو العته والطيش والسفه ونحوه) ينقدح التكليف.

العقل قانون الله الذي جعله سبيلاً موصلاً للبشرية لتصديق رسله واتباع أنبيائه وكتبه، وفهم رسالة الله ومراده من خلقه.. العقل طريق الهداية ودرب الوصول إلى الله، والضلال ليس دليلاً على إعمال العقل، بل على فساده واتباع الهوى والشهوات الحاضرة.

من جعل بين العقل والشرع خصومة وعداوة ومنافرة فقد خاصم الشرع، علم بذلك أم لم يعلم، أدرك ذلك أم لم يدرك، وجنايتُه على دين الله جد عظيمة، لأن العقل هو مؤيد النقل وآلة وعيه ومفتاح فهمه وشاهدُه الأول وحجة الله على خلقه، ولولا العقل ما عرفنا الله ربنا ولا عرفنا صدق أنبيائه، ولا وعينا كتبه ورسالاته

العقل ذلك المخلوق الشريف والجوهر النفيس الذي ركَّبَه الله في أجمل الكائنات وأفضل المخلوقات، وبه تميز عن الأنعام والبهائم، وهو آلة التفكير والاستدلال والاستحسان والاستنباط والقياس واستقامة المنطق وتركيب المفاهيم والتصورات، وأداة الفهم والنظر والتلقي والإدراك، وتمييز الخير من الشر؛ النافع من الضار؛ الثمين من الغث؛ والحسن من القبيح؛ والخطأ من الصواب، وبه الإنسان يكون أكثر قدرة وديناميكية من غيره على التكيف والتعاطي والتأقلم مع المعطيات والمستجدات، ومغالبة المخاطر والتحديات.

الديناصور أقوى من الإنسان بكثير لكنه مخلوق لا عقل له، ولهذا فقد قدرته على التأقلم والبقاء فانقرض وهلك، وكم ذهبت قبل أمة الإنسان من أمم؛ كلها ذهبت أدراج الرياح وطي النسيان وكأنها لم تكن.

فإذا ما فقدت البشرية عقلها فقدت سر بقائها وقدرتها على التأقلم؛ اختفت وتوارت وانقرضت هي الأخرى، ولا ضمان لها بديمومة البقاء على هذه البسيطة؛ إن لم تُحسن الاستخلاف بما منحها الله ربها وأغدق عليها من آلاء وأفضال ونعم وأولاها (العقل)، وهذا ما يؤكد ويثبت على سبيل القطع واليقين صحة المقولة الشهيرة “البقاء للأصلح وليس للأقوى”، فالقوة ليست ميزان الوجود، ولكنه العقل ذلك المخلوق الشريف.

فمن جعل بين العقل والشرع خصومة وعداوة ومنافرة فقد خاصم الشرع، علم بذلك أم لم يعلم، أدرك ذلك أم لم يدرك، وجنايتُه على دين الله جد عظيمة، لأن العقل هو مؤيد النقل وآلة وعيه ومفتاح فهمه وشاهدُه الأول وحجة الله على خلقه، ولولا العقل ما عرفنا الله ربنا ولا عرفنا صدق أنبيائه، ولا وعينا كتبه ورسالاته، ولا عرفنا سبل الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

معاداة العقل بصورة أو بأخرى فيه شكل من إلغاء وإنكار المسؤولية الفردية والجماعية في الدنيا، وحقيقة الحساب والثواب والعقاب يوم الجزاء الأكبر، وفيه نوع من تصوير الإنسان على سبيل الإطلاق باعتباره مخلوقاً مسيّراً مكرهاً كالبهائم، لا مخيّرا

معاداة العقل بصورة أو بأخرى فيها شكل من إلغاء وإنكار المسؤولية الفردية والجماعية في الدنيا، وحقيقة الحساب والثواب والعقاب يوم الجزاء الأكبر، وفيها نوع من تصوير الإنسان على سبيل الإطلاق باعتباره مخلوقاً مسيّراً مكرهاً كالبهائم، لا مخيّرا، وفي ذلك كفر بنعمة الله، وفتح باب إلى الكفر أوسع وإلى الإلحاد أقرب بكثير من الباب الذي يُظن أنه يُسد بمعاداة العقل بدفع الناس دفعاً إلى رفض النقل والكفر به، والتسليم المطلق للعقل حد التأليه.

ولهذا جاء معتقد أهل السنة والجماعة وسطاً بين التقديس المفرط وبين الإقصاء شبه المطلق، بقولهم بنفي ودرء تعارض العقل مع النقل. وحرروا في ذلك المصنفات، واعتبروا العقل خادما للنقل لا مهيمناً عليه، فكانوا بذلك وسطاً بين غلاة المعتزلة وبين جفاة الأثرية. فبعض غلاة المعتزلة جعلوا العقل حاكم على النقل، وبعض غلاة الأثرية تنادوا إلى إقصاء العقل صراحة، معتمدين بذلك قولاً لا يصح عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: “ضعيف الأثر خير من صحيح النظر”.

وقد أكد الكثير من كتاب الإسلام الكبار قديماً وحديثاً على أهمية ومكانة العقل في ديننا العظيم، وتميزه بذلك عن بقية الشرائع السماوية والأرضية، ومن ذلك قول نفيس للكاتب العبقري عباس محمود العقاد -رحمه الله- في كتابه “التفكير فريضة إسلامية” ص7:

“والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يُلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه”.

جاء معتقد أهل السنة والجماعة وسطاً بين التقديس المفرط وبين الإقصاء شبه المطلق، بقولهم بنفي ودرء تعارض العقل مع النقل. وحرروا في ذلك المصنفات، واعتبروا العقل خادما للنقل لا مهيمناً عليه، فكانوا بذلك وسطاً بين غلاة المعتزلة وبين جفاة الأثرية

sitation

التفكير عبادة وفريضة، والعقل فضيلة ونعمة وحجة وضياء ونور وفرقان. ففي القرآن الكريم لم يأتِ ذكر العقل بصيغة الاسم مطلقاً، بل بصيغة الفعل دائماً: “يعقلون، لا يعقلون، تعقلون، عقلوه، نعقل، فَكّر، تتفكروا، يتفكروا، تتفكرون، يتفكرون”.

وكل هذا فيه دلالة واضحة وإشارة جلية إلى تحفيز عقل الفرد المسلم واستفزازه، وحثه على مداومة استخدام العقل وإعمال الفكر دون توقف وانقطاع. ولهذا أُثر عن بعض السلف “تفكر ساعة خير من قيام ليلة”، وعن التابعي الحسن بن عامر قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم يقولون: “إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان: التفكر”.

أما آيات الزجر والوعيد عن منافرة العقل فقد تكررت في عدة مواضع من القرآن الكريم:

“وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير”.

وفي موضع آخر:

“ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون”.

والرجس كما جاء في كتب التفسير هو العذاب.

اللهم فقهنا وفهمنا وعلمنا واهدنا سبل السلام.

نقلا من عربي 21

حول الكاتب

وسام العامري