جنة الدنيا للطفل هي “اللُّعَب”؛ إن لم تكن كل الدنيا في مخيلته الواسعة وروحه الجميلة وقلبه البريء.
لا أنسى أحد الجيران القدامى كيف كان يربي ويعلم طفله، وهذا الجار كريم وابن كرام، وكان من أهل الصلاح والتدين والفضل والبذل والذوق والأدب الرفيع والخلق العالي؛ حتى مع غير المسلمين، بل حتى مع الحيوانات وسائر المخلوقات. وما أكثر ما كان يقول “تأدبوا مع خلق الله وأكرموهم تأدباً وإكراماً لخالقهم”؛ كان لطفله الجميل بعض اللُّعَب والدمى، فإذا زرتُه ووجدتُ لديه بعض الضيوف من أطفال الحي أجده يعلم ولده كيف يهديهم بعض لُعَبِه وكيف يتبسم في وجوههم، وكأنه يريد بهذا الفعل العظيم أن يغرس في نفس ولده وينقش في قلبه الصغير العطاء والبر والبذل والشجاعة والإيثار والكرم وسماحة النفس، وعدم الحرص والتمسك بالأشياء والزهد بالدنيا وتوقير الناس واحترامهم وإن كانوا أطفالاً صغاراً بمثل سنه.
جاء في الحديث الصحيح “إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم”، وكذلك العطاء وسائر الطباع والأخلاق إنما هي مكتسبة تربوية أكثر من كونها لدنية وهبية. هي لا تأتي إلا بالمجاهدة والتربية والتعود وتأديب النفس وتهذيبها ومقاومة الهوى الغالب عليها من أخلاق الشح والبخل والإمساك والحرص والمنع، ثم ما يلحق به ويتبعه من سوء الأخلاق والرذائل والفواحش الظاهرة والباطنة، كالكذب والخوف والجبن والخور واللؤم والتكبر والتعالي على الخلق وتصعير الخد، وسوء الظن بالله وبالناس وسوء الأدب مع الله وخلقه والغباء والبلادة المغلفة بالتذاكي المصطنع، وما هو من الذكاء في شيء، بل غباء فاحش فاجر وموت الشعور وذهاب الفطنة وقسوة القلب وانطماس البصيرة، والاستغراق وكثرة الاتصال بالأسباب المادية الأرضية المنقطعة، والانقطاع عن الأسباب السماوية المتصلة، والتي غالباً بل دائماً ما تكون هذه الأخلاق مُسْتَنْبتَةً ناشئةً متفرعةً من الشُّح أصلاً، متلازمةً به تلازم الشيء بظله.
جاء في صحيح البخاري:
“اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم”.
هنا قرن سيدنا النبي ? الشح بالظلم وجعله بمرتبة واحدة مع الظلم.
ولهذا قال سيدنا الإمام أبي منصور الماتُريدي رحمه الله: “يجب على المؤمن أن يعلّم ولده الجود والعطاء والإحسان كما يجب عليه أن يعلمه التوحيد والإيمان؛ إذ حب الدنيا رأس كل خطيئة”.
قبل سنوات ليست بالقليلة ذكر لي أحد التجار العرب ممن يُتاجرون بالسجاد الإيراني اليدوي الفاخر ويقيم في دولة خليجية صغيرة؛ كيف أن شاباً من مدينته لجأ إليه “بطلبٍ ما”، وكيف رفض هذا التاجر طلبه مستغرباً متسائلاً: كيف يتجرأ الشاب أن يطلب منه أصلاً وأنه ما فعل ذلك إلا طامعاً!! فإذا بي لم أستطع أن أمسك نفسي من عجيب ما سمعتُ منه وبدأتُ في عذله مع اجتهادي في انتقاء أحسن اللفظ وأعذبه وأكثره تلطفاً لعل قلبه يلين مع المسلمين في قابل دهره، خاتماً له بقولي: هل تضمن الدنيا ألا تدور بك، ثم تجد هذا الشاب وقد اغتنى وإذا بك (لا سمح الله) وقد تبدل حالك وتغير مآلك ثم تجد نفسك مضطراً لرفع سماعة الهاتف والطلب منه؟ فغضب مني محتجاً بوضعه الطيب ووضع عائلته المالي وأصدقاء عائلته. فقلتُ له: هناك دول كاملة أذهبها الله أدراج الرياح بغمضة عين وليست عائلات فقط، وليس بين الله وبين أحد من خلقه ضمان مكتوب بدوام الحال!
عجيبٌ أمر من ينظر للخلق وللأسباب المخلوقة المنقطعة الفانية ويتعلق بها ويؤمن بها أكثر من إيمانه بالله، ولا ينظر لله ويتعلق به ويكفر بكل ما سواه إلا ظاهراً وتجملاً. “من نظر للحق سلك ومن نظر للخلق هلك”، والمخلوق “مخروق” فانٍ متبدل متحول متغير على الدوام، والخالق الواهب لا يتغير، لا ينتهي ولا يتحول ولا يتبدل ولا يموت. باقٍ دائماً وأبداً، فبه تكون وبغيره لا تكون، وبه تفعل وتسمع وتبصر وبغيره لا تفعل ولا تسمع ولا تبصر.
وهنا يحضرني قولٌ لأحدهم:
عسى سائل ذو حاجة إن منعته
من اليوم سؤلاً أن يكون له غد..
فإنك لا تدري إذا جاء سائل
أأنت بما تعطيه أو هو أسعد..
وللبيتين قصة، فقد قال محمد بن هلال: بعث إليَّ المعمَّر برسالة يطلب مني بغلة مسرجة ولم تكن له عندي منزلة مرعية، فرددت الرسالة ولم أجبه عنها، ثم إنه بعثها إليَّ وكتب على ظهرها البيتين أعلاه. فأعدتُها إليه من غير جواب كما فعلتُ أولاً، ثم إنَّ الزمان قد دار فصُرِف عني ما كنت فيه من العُلا، ووُزِّر المعمَّر، وكنت إذ ذاك متولياً شؤوناً شتى، فأُرسلت إلى شيراز في مهَمَّة، فوردت عليه وأنا لا أشك في قتلي لما تقدم من سوء فعلي معه، فقرَّبني وأكرمني أياماً، وأنا من شأنه متعجب.
فلما كان بعد أيام قمت من مجلسه منصرفاً فاتبعني الحاجب وقال: الوزير يريد أن يخلو بك، فلما خلا مجلسه استدعاني، وأسرَّ إلى بعض خدمه شيئاً، فمضى وعاد ومعه الرسالة بعينها، فلما أتى قرأت بحيث يسمع: “يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً”، فقال لي: لا تُرَع، أوقَفتك على سوء فعلك حتى لا تستصغر بعدها أمراً؛ ولا تطرح مراعاة العواقب فيصير الدهر لك غير صاحب، وليكن هذا الفعل لأخلاقك مهذِّباً؛ ثم خلع عليَّ ووَصَلني وردَّني إلى منصبي.
نقلاً عن عربي21