الرعب في زمن الكورونا

يُروى في الآثار أن قافلة تجارة خرجت من العراق صوب الحجاز، وفي الصحراء لقيَ شيخ القافلة الطاعون فسأله:

إلى أين؟

فقال الطاعون: إلى العراق.

الشيخ: ولمَ؟!

الطاعون: لأحصد ألفا.

ذهب كل في سبيله، وعندما أنهت القافلة رحلتها وقفلت راجعة إلى العراق لقي الشيخ الطاعون مجددا، فأمسك به وقال له: ويحك لقد كذبت عليّ وقلتَ ستحصدَ ألفا وحصدت خمسة آلاف؟! فرد الطاعون بكل برود: ما حصدتُ غير ألف أما الباقون فقد حصدهم الفزع.

من هذه القصة القصيرة يتبين لنا سرعة استجابة الناس وتأثرهم بحملات الخوف والفزع والرعب، وتقبلهم الأمر بكل يسر وسهولة ودون مقاومة بما يشبه التنويم المغناطيسي.

يقول المحقق في جرائم القتل “شارلوك هولمز”، في فيلم سينمائي يحمل نفس الاسم صدر عام 2009: “الخوف أعظم الأسلحة على الإطلاق”.

عند اللقاء الأول قد تسمع أحدهم يقول للآخر بالعامية المصرية: “سمعتك سابقاك”، وهذا مرده لإخضاع الناس أنفسهم “وبمحض إرادتهم” للتأثير السمعي المسبق على النفس، والتسليم اليقيني والثقة بذلك قبل التحقق بالعين والمحادثة والمشاهدة والمعاشرة والتجربة، ثم تكريس التعامل لاحقا على تلك السمعة المسبقة وما يلحقه من الاطمئنان الداخلي. وقد يكون في ذلك نوع من الخداع الذاتي المقبول والنفاق الاجتماعي المستطاب الذي قد يوقع الأغلب لاحقا في الكثير من الأفخاخ والورطات والصدمات والأسف.

في الفيلم السالف الذكر، يتحدث المحقق شارلوك هولمز أيضا في أحد المشاهد الأخيرة من الفيلم عن كيفية استخدام سلاح الخوف والرعب لخداع المقربين والدائرة المحيطة بالشخص، وكيف أن الأمر يتم بسلسلة تكاملية ينتهي به المطاف إلى خداع الجماهير ثم العالم أجمع.

الخداع تحت ظل الخوف هو “الكذب الموثوق” الذي تطمئن له القلوب وتستريح له النفوس، ويصبح أكثر قبولا وأشد وقعا في ظل تحشيد إعلامي هائل من التخويف والفزع والهلع.

الجائحة التي يعيشها العالم اليوم قلبت موازينه المقلوبة أصلا، وأغرقته أكثر من السابق في ماديته وأنانيته الغارق فيها حتى شحمة الأذن. بدأت (بحكمة إلهية خفية) بظهور فيروس متناهي الصغر، فتاك سريع العدوى من الصين إلى بقية الكوكب بلا ستثناء أو سابق إنذار في حالة هلع هستيرية “مبررة”؛ من منع التجول والسفر وإغلاق الحدود وإخلاء الساحات والشوارع والأسواق، في ظل عالم غارق أصلا بالفوضى والتيه والحروب والصراع والتنازع المجنون، ناهيك عن شعوب كاملة حُشرت حشرا وقسرا في مطحنة الفقر والجوع والمرض والبطالة والاستبداد والظلم والقهر والطغيان والاقتتال والاحتلال المباشر وغير المباشر ونزيف الدم المستمر، وخاصة في عالمنا العربي الذبيح والإسلامي الجريح.

لا أقول هذا من باب التهوين من شأن الجائحة التي أرعبت العالم اليوم حقا، وأدخلته في مرحلة غير مسبوقة من الاستنفار وشد الأعصاب، ولكن في الجهة المقابلة فإن التهويل أيضا قد يفعل بالشعوب وبالبشرية ما لا يفعله الفيروس نفسه بمراحل، وبما يعجز عن التنبؤ بآثاره أحد، ولا يعلم بمآله سوى الله.

نحن اليوم (وخاصة نحن المسلمون) في وقت أحوج ما نكون فيه إلى نشر ثقافة الطمأنينة والهدوء وفقه العافية والإيجابية والشفافية والفطنة والتكافل والتراحم الاجتماعي، وإعلان الحرب على السلبية والاستغلالية والأنانية وثقافة الخوف والفزع والهلع والرعب، وجميعها اليوم مطلوبة أكثر من أي وقت مضى، خاصة من العلماء الربانيين والكُتاب والمفكرين والعاملين المخلصين في وسائل الإعلام العربية والإسلامية.

هذا مع ضرورة الأخذ بالاحتياطات التي جاءت بها شريعة الإسلام، والتي سبقت بها جميع الشرائع والقوانين في عالم اليوم. فقد سبق الإسلام غيره بقرون؛ بتشريعات الطهارة والنظافة في كل الأحوال عامة، وتشريعات الحجر والعزل الصحي والتباعد الاجتماعي وعدم المصافحة في حالة ظهور الوباء.

بل إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه قد امتنع عن المصافحة منعا وتجنّبا للعدوى، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه: “عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّا قد بايعناكَ فارجع”.

وفي مواضع أخرى من السنة النبوية المطهرة جاء فيها النهي صراحة عن القدوم على أرض الطاعون والخروج منها، وألا يختلط مريض بصحيح والعكس، والعناية البالغة بالنظافة الشخصية والمكانية وفي الملبس والمطعم والمشرب، بل عدّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعتزل في بيته ومدينته وقت انتشار الوباء بمكانة الشهيد في سبيل الله.

جاء في صحيح البخاري: “عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرني أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء وأن الله جعله رحمة للمؤمنين. ليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد”.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: “اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت”.

ويقول ابن سينا: “الوهم نصف الداء، والطمأنينة نصف الدواء”.

وللشاعر اليمني عبد الله السعيدي في هذا المقام أبيات جميلة أختم بها:

لوذوا به سبحانه في كلِّ ضِيْقةْ
فاز الذي جعل الدعاء طريقهْ

المرءُ في كلّ النّتائج رابحٌ
ما دام ربي عونَه ورفيقهْ

فتفاءلوا بالله وهو وليُّكم
مهما تكن تلك الجروح عميقةْ

الخوف يقتلنا بدمٍّ باردٍ
حتى يُحوّل ما نخاف حقيقةْ

نقلاً عن عربي21

حول الكاتب

وسام العامري