“لا تغفل عني فإني مكروب”.. عن الإيمان والحالة النفسية

 قال المحدِّث يونس بن عبد الأعلى: 

“ما رأيتُ أحداً لقيَ من السقم ما لقي الشافعي؛ فدخلت عليه، فقال لي: أبا موسى، اقرأ علي ما بعد العشرين والمائة من “آل عمران”، وأخف القراءة، ولا تثقل. فقرأت عليه، فلما أردت القيام قال: “لا تغفل عني؛ فإني مكروب”!.

الذي أثار تعجبي وإعجابي هو كيف لرجل بمكانة الشافعي -رضي الله عنه؛ وهو “الإمام الفقيه” وقد جَسُر بكل شجاعة وتجرد أن يعترف بضعفه ويبوح بكربته لصاحبه يونس!، وكيف أن الأخير أيضاً لم يرد عليه على طريقة بعضهم اليوم: “فين إيمانك يا رجل، اتقِ الله؟!”.

مع التأكيد على فضل الشافعي وأسبقيته ومكانته في الدين والعلم والفقه والهدى والتقى والزهد والورع!، فهو الإمام العدل الثبت الثقة، وأحد الأربعة الذين أجمعت الأمة على إتباع مذهبهم في الفقه بعد أن وضع الله لهم القبول في الأرض وتقبلهم المسلمون بالقبول الحسن.

فهل كان الإمام الشافعي بدعاً من الناس أو مخالفاً لنهج الانبياء والرسل؟!

وهل كان الإمام الشافعي عندما قال لصاحبه “لا تغفل عني فإني مكروب”؛ ضعيف الإيمان واليقين والصلة بالله أو لا يصلي؟!، (بحسب منطوق بعضنا اليوم بلسان الحال والمقال) لتُعرَض عليه عوارض الضيق النفسي والكرب والهم والحزن!، أو فلنقل بلغة عصرنا “الاكتئاب” الذي وصفه د. عادل صادق؛ أستاذ الطب النفسي في جامعة عين شمس والأمين العام السابق لاتحاد الأطباء النفسيين العرب بقوله: “إنه مرض الأذكياء والمثقفين.. وكذلك فهو مرض هؤلاء الذين لم يعرف الشر طريقه إلى قلوبهم”.

هذه الحادثة البسيطة والمقولة الملهمة للإمام الشافعي تؤكد أن العِلل والأمراض النفسية ليست “بالضرورة” متّصلة دائماً بمدى قوة أو ضعف الإيمان واليقين والعلاقة مع الله؛ فهذا سيدنا موسى -عليه السلام- قال: “ويضيق صدري”، ونبي الله يعقوب -عليه السلام- بكى حتى ابيضّت “عيناه من الحزن”، 
‏ووجه الله الخطاب في القرآن لسيدنا محمد  بقوله: “فلعلك “باخع نفسك” على آثارهم”؛ 
‏باخع أي: مُهْلِك نفسك من الهم والغم والحزن.


‏والقرآنُ وصف الإنسانَ بأنه خُلقَ “ضعيفا”، فليس من الحكمة والعقل ولا من الفقه وحسن الفهم رمي المسلم في دينه وعقيدته وإيمانه ويقينه واتهامه بالتقصير في صلاته وعبادته وعلاقته بربه إذا مر ببعض التقلبات والاضطرابات النفسية كالاكتئاب وخلافه، أو مطالبته بمثالية مفرطة بأن يكون حديداً صلباً متجلداً، أو ملائكياً متنكراً لأصل خِلقته البشرية التي رُكبت من ضعف، أو إهماله والإعراض عنه وإظهار عدم المبالاة به، أو الازدراء أحياناً والاستخفاف والاستهتار بصورة معيبة ومخزية ومخالفة لأبسط قواعد الأخلاق والمروءة والأدب.


ولا يصحّ ولا يليق البتة أن يتم تفسير حالات الضعف البشري بالنقص والخلل في الدين، فهذا القرآن يقول لسيدنا لوط -عليه السلام- ‏”لا تخف ولا تحزن إنا منجوك”، ويتحدث عن نبي الله يونس -عليه السلام- بأنه “ذَهَب مغاضباً”.. وفي موضع آخر واصفاً موقف الصحابة في يوم الأحزاب بقوله: “وتظنون بالله الظنونا”، وقال القرآن على لسان الصِّديقة مريم البتول: “يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا”، وتأمل الخطاب القرآني لسيدنا محمد : “ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون”. 


ولهذا قال سيدي : (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل). وفي رواية بزيادة (يُبتلى المرء على قدر دينه فإذا كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإذا كان في دينه رقة خُفف عنه)، وفي الصحيحين (ما يصيب المؤمن من نَصَب، ولا وَصَب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم…) وهنا لم ينفِ الإيمان عن من تمر به حالات الضعف النفسي المتعددة، بل كان نفسه يستعيذ بالله من الهم والحزن والعجز والكسل كل صباح ومساء.


ولو افترضنا أن الهم والحزن وضيق الصدر والخوف والجزع والقلق والإحباط واليأس قد تمكن من صاحبه وبلغ به حد اشتهاء الموت بل وعزمه وإقدامه على قتل نفسه!، فلا يصح أن يُرمى بالكفر أو يُتهم في دينه وإيمانه وصلته بربه، فليس كل منتحر فاقد للإيمان، فقد يكون الإنسان مؤمناً صالحاً مصلياً متصدقاً ذاكراً لله، لكنه يمر بأزمة نفسية خانقة، أفقدته عقله وتفكيره وصوابه.


وقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله: “لا تستفتِ من ليس في بيته دقيق فإنه لاعقل له”.
واشتهى أبي محمد المهلبي الموت، وكان من أهل الذوق والأدب، فارتجل أبياتاً طريفة وجميلة قال فيها:
ألا موتٌ يُباعُ فأشتريهِ
فهذا العيش ما لا خير فيهِ..
ألا موتٌ لذيذ الطعم يأتي
يخلّصني من العيش الكريهِ..
إذا أبصرت قبرا من بعيد
وددت لو انني مما يليهِ..
ألا رحم المهيمنُ نفس حرٍ
تصدق بالوفاةِ على أخيهِ..


بل قد انتحر أحد أصحاب سيدنا رسول الله، وغفر الله له، فهل يصحّ أن نقول انه انتحر لأنه لم يكن مؤمناً؟ لا، بل كان صحابياً مهاجرا، ولكنه لم يحتمل حر المدينة المنورة وقرها فمرض بسبب تغير الجو مرضاً شديداً جزعت لها نفسه فانتحر، والحديث في صحيح مسلم، فقد ورد فيه أن “الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي ، فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ (قال: حصن كان لدوس في الجاهلية) فأبى ذلك النبي ، للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض فجزع، فأخذ مشاقص له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطياً يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه ، فقال: ما لي أراك مغطياً يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت.

فقصها الطفيل على رسول الله ، فقال رسول الله  : “اللهم وليديه فاغفر”.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: “في هذا الحديث حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة: أن من قتل نفسه، أو ارتكب معصية غيرها، ومات من غير توبة، فليس بكافر، ولا يُقطع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة”.


وهذا النص يؤكد لنا مجدداً بطلان كل التفسيرات التي تصرف وجود المشكلات والعلل النفسية إلى قلة الإيمان وضعف اليقين والصلة بالله، نعم الإيمان ركن أصيل وحصن حصين وجزء مهم جداً في حياة الإنسان وعلاجه، لكن لا بد معه أيضاً من التضامن والتكاتف والتعاون على البر والتقوى وحسن الظن وحسن المعاملة، ثم المداواة والأخذ بالأسباب المادية لدفع الأذى، فالنبي ? قال: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله”.


ثم الحرص والعناية بجانب شديد الأهمية والمتمثل في جبر الخواطر ومواساة المكروب والمحزون والمهموم والمحبط واليائس ومن تقطعت به السبل والحيل، وإعانته ونصرته على شدائد الحياة الدنيا وشياطين الإنس والجن والوقوف إلى جانبه ودفع الضرر عنه بكل وسيلة مستطاعة، وإحياء وبث روح الأمل والحياة في قلبه المكسور، “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”، “وقفوهم إنهم مسؤولون مالكم لا تناصرون”.


وفي الصحيحين قال سيدنا : “اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة”.


وقال سفيان الثوري: “ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم”، ولهذا قال بعض الصالحين: “من سار بين الناس جابراً للخواطر أدركته عناية الله في جوف المخاطر”.


وما يُدري المرء لعل الذي يُنجيه تلك الخواطر التي جبرها وتلك القلوب التي واساها وتلك الشخوص التي نصرها، لعله يُنصَر ويُعَزّ في موضع يقف فيه ذليلاً راجياً آملاً استنزال عزة الله ونصره فتتنزل عليه بجبره ونصرته لإخوانه ودفع الحزن والكرب والذل عنهم.


وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قال : “من أُذل عنده مؤمن فلم ينصره، وهو يقدر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة”. 


وجاء لفظ “أُذِلَّ” في الحديث بصيغة المبني للمجهول فلم يشترط  أن يكون معروفاً معلوماً، ثم جاءت كلمة “عنده” والعندية هنا ليست مقتصرة على العندية المكانية فهي شامله سواءً كانت بحضرته، أو بعلمه وإن لم تكن بحضرته كما قال الحافظ المناوي.


تبقى قضية مهمة يغفل عنها كثيرون، وهي أن الأمراض النفسية لها بُعد وراثي وجيني، وليست دائما نتاج عوامل خارجية، وهذه قد تخرج الإنسان عن طاقته وتدفعه إلى الانتحار في بعض الأحيان، فضلا عن العزلة والسلبية، وهناك تخصص مهم في الطيب يعالج هذا اللون من الأمراض، وهو يحقق تقدما ملموساً، وإن لم يعالج كل الأمراض على نحو حاسم بعد.


وأختم هنا بأبيات جميلة للشاعر عبدالله السعيدي:
رِقُّوا لِمنْ حولَكم عطْفاً وإحْساسا
ولا تزيدوهمُ لَوماً ولا ياسا..
كونوا لهم سنَداً واقْضوا حوائجَهم
أو فالْزموا الصّمت -كالباقين- إفْلاسا..
ووفِّروا الخُطَبَ العصْما لأنفسكم
لا يرحمُ الله من لا يرحمُ الناسا

نقلاً عن عربي21

حول الكاتب

وسام العامري