في ظل الزخم الإعلامي الكبير الذي يتم فيه مناقشة هذا الأمر في وسائل الإعلام المختلفة وما تناوله الإعلامي السعودي عبد العزيز قاسم مؤخراً في برنامجه “ملفات خليجية” على قناة فور شباب لأسبوعين متتاليين عن ظاهرة الصحوة الإسلامية مالها وما عليها يعنينا هنا أن نقوم بمحاولة فهم لهذه الظاهرة بصورة معتدلة مبتعدين قدر الإمكان عن المدح والقدح.
مفردة “الصحوة” كلمة يراد بها الإحياء والبعث والتجديد وقد جاء في الحديث الصحيح (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) قال يجدد لها دينها ولم يقل شكل الدين او هيئته وخلافه بل الدين نفسه يتجدد بإحيائه وبعثه من جديد والعودة إليه كما جاء أول مرة، والظاهرة الصحوية والتجديدية ظاهرة موجودة في كل الأديان وليست مقتصرة على الإسلام فحسب ولو تأملناها في الحركة الصحوية المتأخرة إذا افترضنا صحة التسمية مجازاً لوجدنا عدم تطابق ذلك على الحقيقة!
هنا يحق لنا ان نتساءل هل يصح تسميتها بـ “الصحوة”؟!
في بداية القرن العشرين الميلادي ونهاية القرن الذي سبقه ظهرت حركة صحويه تجديدية إحيائية حقيقية تمثلت برموز كبار كجمال الدين الافغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وعبدالرحمن الكواكبي، ثم ترجمها الشيخ حسن البنا رحمه الله ترجمة تطبيقية عملية اتسمت بالاعتدال والانفتاح والوسطية والتسامح والواقعية وتجنب الدخول في الخلافات الفقهية والصراعات الفكرية مع المسلمين ودعوتهم تحت كلمة جامعة تجمع المسلمين على العمل للإسلام وكفى كردة فعل طبيعية بعد انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية، ثم جاء الإمامين الجليلين محمد الغزالي وتلميذه يوسف القرضاوي كـ امتداد طبيعي لهذه المدرسة الجليلة.
وأمام هذه الظاهرة المتأخرة التي ظهرت في الأربع العقود الأخيرة بعد نكسة 5 حزيران 1967م وحادثة جهيمان في الحرم المكي والتي تَسمّت بـ “الصحوة” رأينا جزءاً عريضاً من المنتسبين لها من ينتقد ويتنقص من قدر هؤلاء الأعلام الكبار ويهضمهم جهدهم وحقهم فأي صحوة هذه التي ينتهي بها الأمر إلى التنكر والجحود والنسيان والتجاهل المتعمد بل نسف وتسفيه جهد من سبقهم بمراحل في ميدان العلم والعمل والفكر والدعوة والتربية والجهاد والنضال والإصلاح والبناء بعيداً عن كل الاعتبارات الأدبية والأخلاقية؟!
ابتدأ أحد رموز هذه الظاهرة “الظرفية” وهو الداعية القدير سلمان بن فهد العودة في بداية عهده بتأليف كتاب “وقفات هادئة مع محمد الغزالي” لم يراعِ فيها مكانة الشيخ العلمية والفقهية والفكرية والدعوية ولم يعطه حقه في التوقير والتقدير وبعد أكثر من ثلاثة عقود أمر الشيخ العودة بوقف إعادة طباعة الكتاب المذكور نهائياً معلناً أسفه وخجله من تأليف هذا الكتاب وكيف أنه كتب اسم عَلَم من أعلام العصر كالشيخ محمد الغزالي مجرداً من اي لقب!
هل كان الأمر يتطلب من الشيخ سلمان العودة -حفظه الله- أن ينتظر طيلة هذه العقود ليعلن ندمه؟! وعموماً أن تأتِ متأخراً خيرٌ من ألا تأتِ.
نجد أيضا أتباع هذه الظاهرة يصرون على تسميتها بالصحوة وينسبون لها كل منقبة وفضيلة، بينما الناقمين في الجهة الأخرى نجدهم يصرون على تسميتها بالغفوة والنكسة وينسبون لها كل مثلبة ورذيلة والتحامل عليها ورميها بكل نقيصة وأنها السبب الرئيس “حسب زعمهم” في تأخر الأمة عن اللحاق بالركب الحضاري للبشرية وانتشار العنف والإرهاب والتطرف في المنطقة!، وغاب الاعتدال والوسط بين الفريقين !، فهذا مسرف في المدح وذلك مفرط في القدح !، والاعتدال والتوازن جميل، فهي أفادت المجتمع السعودي والمصري وسائر المجتمع العربي والإسلامي ولاتزال، وكتجربة بشرية محضة غير معصومة يعتريها الخطأ والزلل أضرته بنفس الوقت وإذا أردنا وقصدنا الإنصاف والعدل وتحري الدقة فتسميتها بالحراك الديني الظرفي هي التسمية الأنسب في نظري المتواضع، وفي تقصي أثر هذا الحراك على المجتمع العربي بكل شفافية ومصداقية سنجد أن ضرره كان أكبر من نفعه فبالرغم من أن هذا الحراك كان له الكثير الإيجابيات التي لا ينكرها منصف، لكن سلبياته طغت على إيجابياته وفي ذات الوقت افتقد إلى الكثير من الرشد والحكمة والتوازن وقام على الارتجالية والعشوائية والفوضى “أحياناً” ولاتزال آثار هذه الفوضى إلى يومنا هذا وقد حاول الكثير من العلماء الأعلام التصدي لهذه الظاهرة ومحاربتها منهم الإمام محمد الغزالي رحمه الله وكتب في ذلك في كثير من كتبه منها ما كتبه في كتابه “الدعوة الإسلامية في القرن الحالي” ووصف دعاة هذه الظاهرة الظرفية بكل صراحة وبدون مواربة بأنهم دعاة فتانون ومنفرون ومتزمتون وغوغاء وأنه لا ينبغي لهم العمل في حقل الدعوة ومات في ساحة المواجهة معها!، وفضل تلميذه العلاّمة يوسف القرضاوي -حفظه الله- احتواء وترشيد هذه الظاهرة وعدم مواجهتها وكتب سلسلة كتب ورسائل تحت عنوان “ترشيد الصحوة الإسلامية” منها كتاب “الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد” وكتاب “الصحوة الإسلامية من الغوغائية إلى العقلانية” وكتاب “الصحوة الاسلامية بين الجحود والتطرف” وكتاب “الصحوة الاسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم” وكتاب “من اجل صحوة اسلامية راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا”، ولم تجد هذه السلسلة القبول الا في اقطار عربية معينة كالحالة المصرية مثلاً بما يخص مراجعات الجماعة الاسلامية في مصر وكانت لكتب ومؤلفات الشيخ القرضاوي صدى واضح في هذه المراجعات باعتراف بعض قادة الجماعة.
ومما أضر به هذا الحراك المجتمع السعودي خصوصاً والعربي عموماً هو ما أفرزته هذه التجربة البشرية من أمراض على المستوى الفكري والمستوى الاجتماعي والأخلاقي والأدبي العام كالهوس في التصنيف وغلبة شهوة الإقصاء وروح الاستعلاء والعنصرية والتحزب المذموم والتعصب الفقهي بشقيه “المذهبي واللامذهبي” والجمود العقلي والفكري وعدم الانفتاح على الآخر وطغيان روح الكراهية على حساب روح المحبة والتسامح والتعاون وعدم تقبل وهضم ثقافة الخلاف والاختلاف “ولايزالون مختلفين ولذلك خلقهم” وهيمنة ذهنية التحريم وثقافة المشبوه والمشكوك فيه على عقل الفرد المسلم مما تسبب في تعطيل كبير للعقل المسلم والتوسع في ثقافة تبديع وتفسيق المسلمين والذي وصل حد التساهل في إطلاق أحكام التكفير احياناً “وتبديع المخالف هو التكفير الخفي” وعدم التماس الأعذار للمسلمين في اجتهاداتهم الفكرية والفقهية وتصحيح عباداتهم وحملهم على أحسن المحامل وإحسان الظن بهم وشيطنة المخالف وغلبة ضيق الصدر وضعف الأفق وغياب النقد الذاتي وعدم تقبل النقد الخارجي والتحسس منه بل والتحامل على الناقد والناصح وتصنيفه ورميه بما لا يليق وعليه انتشرت روح عمياء تصل أحياناً حد الحقد والكراهية المجنونة والعداوة والقطيعة باسم التدين للأسف وبصورة لا تخفى على عاقل وتغلب على البعض حب الوصاية على الناس وكأن الناس خُلقوا من غير فطرة سوية وعقل رشيد مستبصر قادر على التمييز بين الغث والثمين، وغلبة التدين الشكلي القشوري على حساب التدين القلبي الجوهري الحقيقي والمساهمة بشكل غير مباشر في انتشار الكفر والالحاد والمذاهب الفكرية الهدامة كردة فعل عكسية رافضة وغاضبة وانتشرت الازدواجية والفصام النكد وأنتشر الكبر والغرور والأخطر من هذه الامراض كلها والذي هو السبب الرئيس بل وأس هذه الرزايا العظام والطوام الجسام يتمثل في انحدار المستوى الأخلاقي والأدبي بصورة مروعة ومفزعة ومخيفة إلى درجة تجعلك تتساءل أحياناً بينك وبين نفسك أمام بعض المواقف التي تمر عليك “هل هؤلاء متدينون حقاً” ؟!!
وقد اختصر هذه الحالة المؤلمة الامام أبو الحسن الندوي في أواخر عمره رحمه الله بقوله “إن أمتنا تشهد ردة أخلاقية”
وقد قال احمد شوقي رحمه الله
ولستَ بعامرٍ بنيان قوم ** إذا أخلاقهم كانت خرابا
وقال ايضاً
صلاحُ أمركَ للأخلاقِ مرجعه ** فقومِ النفسَ بالأخلاقِ تستقمِ
لا تقوم لأي أمة قائمة على وجه الارض الا ببناء المنظومة الأخلاقية والأدبية والتربوية أولاً وقبل كل شيء، وسر بناء الحضارات الإنسانية ونهضة الأمم البشرية عبر التاريخ خلق راقٍ وعقل منفتح وفكر مستنير وروح متسامحة.
وللشيخ المربي عبد السلام ياسين رحمه الله كلمة جميلة في هذا المقام: “أوصي العاملين في الحقل الدعوي والاسلامي بثلاث وصايا مهمة أولاً التربية وثانياً التربية وثالثاً التربية”،
وللإمام حسن البنا رحمه الله كلمه في أواخر عمره رواها تلميذه الدكتور فريد عبدالخالق رحمه الله في برنامج شاهد على العصر على قناة الجزيرة مع الإعلامي المصري أحمد منصور: “أنه لو استقبل من أمره ما استدبر لعاد إلى تربية الناس قبل كل شيء”.
ولهذا كانت رسالة الأديان عموماً والإسلام خصوصاً هي رسالة أخلاقية وتربوية بالمقام الاول “إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق” ولم يزكِّ الله رسوله الكريم في كتابه المحكم بمثل خلقه العظيم “وإنك لعلى خلق عظيم” ولهذا تجد منظومة التشريعات القانونية واللوائح التنظيمية في كل دول العالم تقوم على القواعد الأخلاقية الكلية كتحقيق العدالة ورفع الظلم عن الناس.
أي حِراك لا ينهض بأخلاق وسلوك الفرد والأسرة والمجتمع والأمة نهوضاً حقيقياً لا شكلياً هو حِراك يضر ولا ينفع يهدم ولا يبني يُخرب ولا يصلح!
عندما نجد متدين ملتحي يجتهد في تجنب سماع الموسيقى “المحرمة في رأيه مع كامل الاحترام” وهو في ذات الوقت يستحل هجران وقطيعة أخيه المسلم فوق ثلاث ولا يسلم عليه حين يلقاه ولا يرد عليه السلام لاختلاف في الرأي او لتباينٍ في موقف أو مسألة فقهية أو فكرية معينة ويتعامل مع أخيه المسلم في الحياة العامة أو في وسائل التواصل الاجتماعي على أساس من الريبة والشك والحذر والاستعداء لا على أساس المحبة وحسن الظن والتعاون على البر والتقوى فهذه المكارثية بشحمها ولحمها بل وتجد من يذهب الى أبعد من ذلك باستحلاله لشتم وقذف وغيبة وأذية أخيه المسلم على وسائل التواصل الاجتماعي بألفاظ واتهامات يندى لها الجبين بمجرد الاختلاف في الرأي فقط وبين من يتسمّون بالدعاة وطلبة العلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فحينها نقول عظم الله أجر هذه الأمة في أمثال هؤلاء !
الوقفات والمراجعات والتصحيح الذاتي ضرورة أخلاقية وفريضة شرعية بل هي فريضة الزمان والوقت وعلى الجميع ان يراجع نفسه وأن يساهم في تطوير ذاته وتجديد فكره وتأديب نفسه وتربيتها وتهذيبها ومحاسبتها وهذا الأمر لا ينبغي أن يقتصر على الأفراد فحسب بل يجب أن يتجاوز الى الأسرة والمجتمع ثم إلى الأمه ولا يوجد شيء لا يقبل التجديد والتطوير باستثناء الأصول والثوابت والكليات والقطعيات وما هو معلوم من الدين بالضرورة، والكمال لله وحده ولا عاصم الا هو سبحانه وعلى الإسلاميين على وجه الخصوص قبل غيرهم تقع المسؤولية والأمانة الكبرى وعليهم أن يقفوا مع أنفسهم وذواتهم ومجتمعاتهم وأمتهم وقفات لا وقفة واحدة للتجديد والتطوير والتهذيب والتأديب والتربية والتوعية والتزكية والمحاسبة وبذل الجهد في محاولة الوعي والفهم بكل تواضع وانكسار وتذلل لله ثم للمسلمين ورحم الله من جعل الفهم مقدماً على الإخلاص.
يحتاج الإسلاميون في كل الأقطار العربية سريعاً واليوم قبل غدٍ وبدون تسويف أو تأجيل وفي مقدمتهم الإسلاميين في بلاد الحرمين ومصر “بحكم ثقل ووزن البلدين” إلى مراجعات أخلاقية وأدبية وتربوية قبل المراجعات الفكرية والمنهجية ووقفات جادة وصادقة ومخلصة ترفعهم عن حظوظ النفس وحب الأنا وضيق الأفق، وإلى تجديد غير مقصور على الخطاب والوسائل بل يتجاوز الأمر إلى ثورة ونهضة تربوية أخلاقية أدبية دينية فكرية توعوية إصلاحية شاملة، تهدف إلى تغيير جذري في نمط سلوكيات وأخلاقيات الفرد والمجتمع، فالأخلاق ضرورة حضارية وفريضة واجبة شرعاً وعقلاً وعرفاً ومحل إجماع بشري، وإن لم يتم هذا الأمر بشكل جدي وحقيقي وصادق وبكل مسؤولية وأمانة فلن يعدو الأمر مجرد تحسينات فوتوشوبية وتعديلات قشورية صورية لا أكثر.
رحم الله والدة سيدنا الإمام مالك بن أنس، فإنها لما أرسلته إلى عالم المدينة ربيعة بن عبد الرحمن (ربيعة الرأي) أوصته بوصية بليغة، فقالت له: “يا بني؛ اذهب إلى ربيعة، فخُذْ من أدبه، قبل علمه”.
ورحم الله أيضاً وهب بن منبه أحد تلاميذ الإمام مالك عندما قال: “صحبتُ مالك عشرين سنة، أخذتُ عنه العلم في سنة، وأخذت عنه الأدب في 19 سنة، وليتها كلها كانت في الأدب”.
وصدق التابعي الجليل عبدالله بن المبارك حين قال:
(نحن إلى قليل من “الأدب”، أحوج منا إلى كثير من “العلم”).
لعل وعسى أن يتدارك الله -جل في علاه- هذه الأمة برحمته وكرمه وعفوه وأن يرفع عنها حالة الوهن والغثائية و “الردة الأخلاقية” التي تشهدها مجتمعاتنا العربية والمسلمة بحسب تعبير الإمام أبي الحسن الندوي الحسني رحمه الله.
ولهذا أقول لنفسي المخطئة المقصرة في حق الله ورسوله ثم لإخواني المسلمين استووا اعتدلوا يرحمني ويرحمكم الله.
نقلاً عن مدونات الجزيرة